يعيش العالم اليوم تحوّلات اقتصادية واجتماعية عميقة تُهدّد بتغيير ملامح الطبقات الاجتماعية. الأغنياء يزدادون غناً، الفقراء يزدادون فقرًا، والطبقة الوسطى (التي لطالما كانت عماد الاستقرار) تكاد تختفي.

هذه الظاهرة ليست وليدة الصدفة، بل هي نتيجة مباشرة لسياسات الدول، ممارسات الشركات، صعود الذكاء الصناعي، وانتشار المضاربات في العملات الرقمية.

1. الدول: سباق نحو القاع

في ظل العولمة والتنافس المحموم على الاستثمارات، أصبحت الدول تتسابق لتقديم بيئة أعمال “أرخص” على حساب مواطنيها. كيف يحدث ذلك؟

  • خفض الضرائب على الشركات الكبرى.
  • تقديم عمالة رخيصة دون حماية كافية.
  • إضعاف النقابات العمالية.
  • تقليص الدعم المخصص للتعليم والصحة.

النتيجة هي تراجع الخدمات الأساسية التي يحتاجها المواطن، مقابل زيادة أرباح المستثمرين.

2. الشركات: أرباح مالية بدون إنتاج حقيقي

لم تعد معظم الشركات الكبرى مهووسة بالإبداع أو تحسين الإنتاج بقدر ما هي مهووسة بالمكاسب المالية السريعة. كثير منها يحقق أرباحًا ثم يستخدمها لإعادة شراء الأسهم، ما يرفع قيمة السهم ويُغني المساهمين الكبار، بينما لا ينعكس ذلك على أجور الموظفين أو تحسين بيئة العمل.
بهذا الشكل تتحول الشركات من محركات للإنتاج والابتكار إلى أدوات للمضاربة المالية.

3. الذكاء الصناعي: أداة تركيز الثروة

الذكاء الصناعي يُعد من أعظم ابتكارات عصرنا، لكنه في الوقت ذاته يحمل مخاطر كبيرة.

  • فهو يقلّل الحاجة إلى اليد العاملة، ما يؤدي إلى ارتفاع البطالة أو تخفيض الأجور، خاصة في الوظائف منخفضة ومتوسطة المهارة.
  • كما أنه يمنح قوة هائلة لمن يملكون الخوارزميات والبيانات، على حساب حرية المجتمع واستقلاليته.

بدل أن يكون الذكاء الصناعي أداة لتحسين حياة الجميع، قد يتحوّل إلى وسيلة لتركيز الثروة والسلطة بيد القلة.

4. العملات الرقمية: اقتصاد المضاربة

مع صعود العملات الرقمية، أصبحت الدول، الشركات وحتى الأفراد يوجّهون أموالهم إلى المضاربة بدل الاستثمار في مشاريع إنتاجية حقيقية.
الكل يبحث عن أرباح سهلة وسريعة، بينما الاقتصاد الحقيقي – القائم على العمل والإنتاج – يتراجع.

ثروات من التلاعب لا من الإبداع

ما نشهده اليوم هو تحوّل في مصدر الثروة: لم تعد تأتي من الإبداع، الابتكار أو العمل المنتج، بل من استغلال النظام والتلاعب به. والنتيجة أن الثروة تتركّز بيد قلّة صغيرة من الأفراد والشركات والدول، بينما تتحمّل الأكثرية العبء.

إذا استمر هذا المسار، فقد نكون بالفعل أمام “الأيام السوداء” حيث تتآكل الطبقة الوسطى، ويتعمّق الفقر، ويُختزل مستقبل المجتمعات في قرارات قلة تملك المال والتقنية.